كثير منا قد سمع بالمذكرة التي رفعها في عام 1998 عشرة من قيادات المؤتمر الوطني الحاكم في السودان وقادت الى انشقاق شهير في صفوف الحركة الإسلامية السودانية (فعرفت منذئذ بمذكرة العشرة). لم تكن المذكرة متجهة لتقليص صلاحيات الرئيس البشير، وإنما كانت موجهة لتقليص الصلاحيات "الواسعة" التي كان يتمتع بها آنذاك الأمين العام للحركة الإسلامية، الدكتور الترابي (رحمه الله). وقد استطاع أصحاب المذكرة أن يصلوا لأهدافهم بسهولة، ليس لأن مجلس الشورى قد اقتنع بمنطقهم وحسب، أو لأن الأمين العام قد أخذ على حين غرة، ولكن لأن الرئيس كان يدعم وبقوة خط المذكرة، والتي اطلع على مضامينها سلفا. ولذلك، وما أن خرج الأمين العام مغاضبا ليُكوّن حزبا مستقلا، إلا وقد برز الرئيس مغايظا، ليس ليملأ الفراغ القيادي ريثما يتم اختيار قيادة جديدة للحركة الإسلامية، وإنما ليعمل (ومعه آخرون) وبصورة متدرجة على إلغاء الدور السياسي للحركة الاسلامية تماما، وحصر وظيفتها في صلاة الجنائز والعيدين والافطار الجماعي والمشاركة في المهرجانات. ثم، وبدعوى توحيد القيادة، صار الرئيس يجمع في كفه بين قيادة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ورئاسة الحكومة ورئاسة الحزب الجديد الذي أنشأ على أنقاض الحركة الاسلامية؛ وهي صلاحيات فاقت الصلاحيات التي كان يتمتع بها الأمين العام أضعافا مضاعفة. وهذا كما ترى تجميع للسلطة يناقض مذكرة العشرة، نصا وروحا، ويسير في اتجاه الانفراد بالسلطة الذي صار الجميع يحصدون ثماره المرة. كان المتوقع، قبل الهبة الشعبية الراهنة أو على اثرها، أن يشعر أصحاب المذكرة، وجميعهم أحياء، بوخز في الضمير فيرفعوا أصواتهم بالاحتجاج، ويقولوا للرئيس، كما قالوا للأمين العام من قبل، لقد تجاوزت الحدود. ولكن لم يقل أحد منهم شيئا وهم يرون الرئيس الذي صنعوه بمذكرتهم يسارع في الاستبداد، ويبالغ في الظلم الفساد، ويتخذ له بطانة من دونهم، ويحتجب عنهم فلا يسمح لأحدهم بالدخول الا على مضض. غير انى لا استغرب هذا، فمن أعان ظالما سلطه الله عليه، كما جاء في الأثر. الغريب هو أن "المؤتمر الشعبي" الذي أسسه الدكتور الترابي احتجاجا واعتراضا على ديكتاتورية الرئيس البشير قد انضوى هو الآخر تحت جوقة الرئيس، فنال بذلك، أي المؤتمر الشعبي، مستشارية ووزارتين أو ثلاثة، وصار من ثم يتحدث في مؤتمراته الصحفية بلسان، وفى لقاءاته الداخلية بلسان. يترحم على شهداء الثورة ويستمر في أروقة النظام كأن شيئا لم يكن، وكأنه لا يسمع أنين الأسر التي حصد أبناءها رصاص النظام، وكأنه لايري المئات من شبابه الخلص ينسلخون من تحته وينخرطون في صفوف الثورة.
أما وقد اختفى من اختفى وصمت من صمت (لأسباب لا فائدة في البحث عنها) فأمانة القلم توجب علينا نحن أن نقول للرئيس خذ عصاك وارحل، اليوم قبل غد، وذلك:
(أولا) ليس خوفا على صحة الرئيس ولكن خوفا على صحة الوطن وسلامته من جراء العلل المتطاولة التي أصابت كلا من الحزب والدولة والحركة الإسلامية التي أتت بهما معا. علة حزب تحول من تجمع شعبي مرن إلى جوقة انتهازية تقتات من المال العام وتحتمى بالرئيس ويحتمى، يقومان ويقعان معا؛ وعلة دولة أضحت مؤسساتها، على علاتها، تضع ما يطلبه الحزب ورئيسه فوق ما يطلبه الوطن، وعلة حركة إسلامية رسالية أتت بهم جميعا، رئيسا ودولة وحزبا، فاذا بها تستدرج وبصورة ناعمة لتكون أداة صغيرة من أدوات الدولة والحزب اللذين خرجا من صلبها، ثم ليسحب منها، وبصورة ناعمة أيضا، كل "المخزون الأخلاقي" الذى كان يمدها بالقوة، وليصادر منها "المنظار" الذى كان يعينها على الرؤية، فتعطلت تماما عن التفكير وعن الحركة وذلك في وقت صارت فيه الحاجة الى فكر سديد وخلق قويم أكبر بكثير من الحاجة الى الهتاف بالشعار والتهديد بالحديد والنار. لقد آن الأوان لأن يأخذ السيد الرئيس عصاه ويرحل قبل فوات الأوان، تاركا للشعب أن يختار حكومته، وتاركا للحزب أن يخوض معاركه، وتاركا الحركة الاسلامية أن تحدد مسارها ومصيرها كما تشاء. لقد شهد التاريخ الحديث ظهور زعماء عرفوا بالآباء المؤسسين، مثل ماو في الصين وغاندي في الهند وعبد الناصر في مصر، وكانت لكل منهم نظرية (صالحة أو غير صالحة) في الثورة والدولة والحزب وفى كيفية التحول الاجتماعي، وكان كل واحد منهم يرى نفسه معلما "ملهما"، وكانت جماهيرهم تحبهم وترى أن وجودهم في القيادة ضروري لبقاء النظرية ولتعليم الآخرين. ولكن الرئيس البشير لم يكن أبا مؤسسا للحركة الاسلامية (هذا إذا صدقنا أنه كان عضوا فيها)، كما أنه ليس فيلسوفا ذا "نظرية" معلومة في الدولة أو الحزب او الاقتصاد حتى يقال إن وجوده في القيادة ضروري لتطبيق تلك النظرية، أو لتعليم الآخرين. فماذا سيخسر الإسلام أو السودان إذا رحل؟
ونقول للرئيس خذ عصاك وارحل
(ثانيا):ليس فقط لأن الفساد قد بلغ في عهده درجة غير مسبوقة، ولكن لأن الرئيس (والفريق المرافق له) قد مكث قرابة ثلث قرن من الزمان وهو يرى الفساد يتسع ويستشرى أمام عينيه ولا يفعل شيئا، بل ويرى بعض وزرائه وخلصائه يعملون في السمسرة ويبرمون الصفقات ولا يفعل شيئا، ويرى أركان نظامه "يجنبون" المال العام، مادين ألسنتهم لوزارة المالية وللبنك المركزي، مما جعل البعض يذهب للقول، محقا، بأن ما نسميه "فسادا" هو في الواقع سياسة مدروسة تهدف لتصنيع شريحة اجتماعية ثرية، تكون حاملا اجتماعيا واقتصاديا للنظام، تحميها الأجهزة الأمنية والنظام القضائي، مع افقار متعمد للشباب وركلهم الى هامش الحياة، ومع ترك الشرائح الاجتماعية المستضعفة لصندوق الزكاة؛ الصندوق الذى يتباهى القائمون عليه بتوزيع وجبات "لإفطار الصائم" وأخرى "لفرحة العيد". أما من يقول بغير هذا، فعليه أن استطاع أن يلقى نظرة في قوائم العطاءات وخرائط العقارات وأسهم الشركات وسلفيات المصارف وايرادات الذهب والنفط وأسماء الموردين.
ونقول للرئيس خذ عصاك وارحل
(ثالثا) لأننا لم نعد نؤمن بمقولة أن الرئيس هو "صمام الامان"، وأن الشعب يحبه، وأن الوطن بدونه سيتلاشى، وأن الناس بدونه سيأكل بعضهم بعضا. لم نعد نؤمن بهذا لأن ما رأيناه في عهده من اضطراب أمنى، واقتتال أهلي، ونزوح جماعي، وتدخل دولي، يفوق كل تصور. لم نعد نؤمن بأن الرئيس هو "صمام الأمان" لأن أجهزته الأمنية هي التي تجوب الشوارع لتخيف وتختطف وتقتل. لم نعد نؤمن بأن الرئيس هو صمام الأمان بعد ما رأينا أجهزته الأمنية تمتهن كرامة المحتجزين لديها، تشتمهم بأقذع الألفاظ، وتلهب أجسادهم بالسياط، وتقتل بعضهم قتلا خارج القانون، معتمدة في كل ذلك على الغطاء القانوني والدعم المالي الذي يوفره لها سيادة الرئيس. لم نعد نصدق بأن الرئيس هو صمام الأمان بينما هو في الواقع لا يملك "رؤية" للسلام ولا يملك "قدرة" على الحرب، وليس لديه خطة للاقتصاد، وليس له رصيد من الصدق، ولا تملك حكومته الا السياط والغاز المسيل للدموع. إن ما نخشاه في مثل هذه الحالة اليائسة التي تتملكه أن يقوم، وقد أعيته الحيل، باستخدام الورقة الدينية، فيضخ المزيد من الشعارات الدينية، والتعبئة الجهادية، فيترتب على ذلك أن يشبع الجياع ضربا، ويدخل البلاد في دوامة جديدة من الاقتتال والحروب الأهلية. وخشيتنا من ذلك تعود الى أن مثل هذه الورقة التكتيكية قد استخدمت من قبل، أستخدمها الرئيس المخلوع النميري، فما رأينا إلا الكرباج والقنابل المسيلة للدموع، وما حصدنا الا السراب. فليأخذ السيد الرئيس عصاه وليرحل، فان للسودان وللإسلام رب يحميهما.
وليأخذ الرئيس عصاه وليرحل
(رابعا) ليس فقط لأن الرئيس (والفريق المرافق له) قد مكث ثلاثين عاما في سدة الحكم، أو لأن هناك طوابيرا من الشباب ينتظرون حظهم في القيادة، أو لأن هناك "ربيعا" سودانيا في ناصية الطريق، ولكن لأن الرئيس علاوة على هذا قد صار في حكم "الأسير" الذى ذهب فقهاء المسلمين من قبل للقول بإسقاط الشرعية عنه باعتبار أنه لم يعد حرا في تصرفاته. يقول أحدهم: " فان صار مأسورا في يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، منع ذلك من عقد الامامة له لعجزه عن النظر في أمور المسلمين؛ سواء كان ذلك العدو مسلما باغيا أو كافرا، وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوى القدرة". لقد كان الفقهاء الأوائل يتحدثون بالطبع عن الأسر الحسي، إذ لم تظهر لديهم صور من الأسر "المعنوي" الذي صرنا نراه في العصر الحديث، حيث تستطيع الدول الكبرى ووكلاؤها الإقليميون أن يصنعوا من أخطاء الرؤساء وجرائمهم طوقا يحاصرونهم به، وبعبعا يخيفونهم من خلاله، فيصبح الرئيس بذلك أسيرا وعرضة للابتزاز، وتصبح المصالح العليا للوطن عرضة للمساومة والمقايضة (لاحظ مثلا حالة الرئيس الحريري أو الرئيس الهادي عبد ربه وما يفعل بهما) إذ لن يجد رئيس من هذه الشاكلة مخرجا غير أن يجعل أمنه الشخصي نقطة محورية تدور حولها كل سياسات الدولة وعلاقاتها، ثم يلوذ بأفراد أسرته وأصدقائه المقربين. ولا يخفى على من يراقب الرحلات الخارجية التي يقوم بها الرئيس، والصفقات التي يحاول ابرامها، والتحالفات التي يحاول نسجها أو نقضها، أن يدرك أن "المصير الشخصي" للرئيس، سواء بقي في الحكم أو خرج منه، وسواء بقي في السودان أو خرج منه، قد صار هو المحدد الأساسي لسياسات الدولة ولتحركات الرئاسة. مما يعنى أن مصير الوطن قد صار رهينا بمصير شخص. ألا فليسقط الأشخاص وليبق الوطن. ولا قوة الا بالله.