يُعرِّف معجم المعاني الجامع (البرغوث) بأنه حشرة من فصيلة البُرْغوثيات، من رُتبة عديمة الأجنحة. لها جسمٌ خفيفٌ مضغوط، به بطن مُتسِعٌ وأطرافٌ مُتخصِّصة في القفز، ورأسُها مُزود بفُكوك قاضمةٍ حادةٍ، وخَرْطوم تمتص به دم الإنْسان أو الحَيوان وتنقلُ به الجراثيم، وهي وثابة ولسْعتُها حادّةٌ. ومن المفارقات أن بعض الشعراء تباروا في وصف هذه السمات العجيبة بتشبيهات أعجب. إذ قال أحدهم متمنياً ما يمكن أن يفضي به إلى الموت جراء فعل البراغيث: فليْت الأفاعِي يَعْضَضْننا... مكان البراغِيْث والقِرقِس. وشكا آخر محنته وأرَقِه منها بحسبها قد تناصفت يومه، وقال: والليْلُ نِصْفان نِصفٌ للهُمُوم فمَا ... أقضِي الرُّقادَ ونِصْفٌ للبراغِيثِ. أما أنا فقد تذكَّرت هذه الكلمة العجيبة التي عبَّرت عما يجيش بصدري حينها. ذلك عندما خرجت علينا براغيث السياسة السودانية من أوكارها، في مشهدٍ يعجز غبرائيل غارسيا ماركيز رائد الواقعية السحرية عن تجسيده!
(2)
في الأسبوع الثاني لثورة الكرامة، وعندما كان أزلام الطغمة الحاكمة يصطادون أجساد الشباب كما العصافير. وبينما كانت دماؤهم الزكيَّة تجري مِدراراً على ثرى الوطن، وترسم تلك اللوحة الفريدة التي أيقظت مواهب الرسامين التشكيليين، وحرَّكت شجون الفنانين وتبارى نحوها الشعراء. وبينما السجون والمعتقلات تضج بالأجساد المنهكة من وعثاء المعاناة. وبينما غالبية أهل السودان يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً وخشية على وطن يقف على حد السيف. كانت براغيث السياسية السودانية يتقدمهم مبارك عبد الله الفاضل وغازي صلاح الدين صنَّوه في ضروب التآمر، وآخرون هم (كالمعيدي تسمع بهم خير من أن تراهم) جمعهم الأول الذي تمرَّس في مدارج الانتهازية في داره، فشهروا فكوك البراغيث القاضمة، وبسطوا خراطيمهم الحادة، في محاولة لمص دم ثورة الكرامة وهي في المهد صبياً!
(3)
أن يصنع بعض الناس الأكاذيب ويروجونها بين العامة، فذلك أمر طبيعي درج البعض عليه واعتدناه وليس في الأمر عجب. أما أن تصنع البراغيث كذبة بلقاء وتقوم بتصديقها، ثمَّ تشرع في التعامل معها باعتبارها أمراً واقعياً، ليس ذلك فحسب بل لدرجة أن تنسى إنها من صنيعها. ذلك لعمري هو الأمر العُجاب، الذي لا يملك سامعه سوى ان يدعو بالشفاء على مقترفه، باعتبار أن مثل هذه الحالات معروف مكانها الطبيعي (وين) والحقيقة فأنا شخصياً لا يخالجني أدنى شك في أن مبارك عبد الله الفاضل من هذه الفصيلة. فهو يظن أن هذا الوطن دمية بين يديه، يشاء له أن يعبث بها كيفما اتفق، ويحق له أن يتمادى في غيه طالما يعوزه وازع أخلاقي يردعه ويقول له كفى هراءً، فهذا الوطن ليس تركة لتُوزع أنصبته للغارمين وأبناء السبيل والمؤلفة قلوبهم!
(4)
مبارك عبد الله الفاضل الذي سبق ووصفته في مقال سابق بأنه قرين (دون كيشوت) الذي يصارع طواحين الهواء عندما لا يجد ما أو من يصارعه. ومبارك عبد الله الفاضل الذي عددت له في مقال آخر عشر من الكبائر والموبقات التي اقترفها في حق هذا الوطن، وقلت إن أي واحدة منها تجعل صاحبها ينزوي من عيون الناس إن لم يكن من الكون برمته. ومبارك عبد الله الفاضل الذي طوينا خطاياه في كتاب مرقوم، نال فيه نصيبه في توثيق تلك الخطايا حتى لا يظنها إنها ستسقط بالتقادم. ومبارك عبد الله الفاضل ربيب الديكتاتورية الثالثة، تمرَّغ في بلاطها كتمرُّغ الرقطاء على الرغام. ومن نكد الدنيا على أهل السودان إنه يعود مرة أخرى، ومعه شرذمة من مشايعيه لمسرح العبث، أقبلوا بغية اجهاض حلم نذر له الشعب الصابر النفس والنفيس. لكن يقيني يقول لي: إن الشباب القابض على الجمر هذه المرة، يسخرون في خويصة نفوسهم من (أحلام زلوط) ويقولون هيهات، طالما أن الشباب الذي فجر ثورة الكرامة هذه ليس بغافل عما يكيدون!
(5)
منذ إندلاع ثورة الكرامة، لم أر احتقاراً لدماء الشهداء التي انهمرت على أرض الوطن قبل جفافها، سوى ترهات مبارك عبد الله الفاضل وزمرته، الذين ظنُّوا أنها ثورة حان قطافها، فسارعوا في رسم الخطط وصنع الأحابيل، وتوهموا أن الأمر أشبه بسباق (مارثون) في مضمار وطن يتيم، لا أُم له ولا أب. ولا أدري كيف يجرؤ من كان بالأمس القريب يمدح سلطة غاشمة، ويتغزل بلا حياء في سلطانها، بل طفق يكيل لهم من المدح والثناء، بصورة يعجز أي متملق عن ترديدها. لكن مبارك عبد الله الفاضل ظلَّ طوال حياته يلهث نحو السلطة، ولا يعبأ حتى لو أريق ماء وجهه مثلما حدث له من قبل. والمفارقة بعد هذا الفشل المتراكم فهو ما يزال يظن أن قضايا الوطن المصيرية هي محض تجريب. في كل الأزمان، حتى في أكثر الأوقات دراماتيكية، مثل الحال الراهن الذي يئن فيه الوطن أنيناً يقطع نياط القلوب!
وبهذا النمط من السلوك المتهافت هو في تقديري يجسد المثال الواقعي للسياسي الفاشل،
(6)
لكن ذلك ما لا يثير استغراب أحد، لأن مبارك عبد الله الفاضل رجل قليل الزاد في مضمار الوطن والوطنية، ولهذا ظلت المحنة تلو المحنة تنضح من أفعاله. بوأه حزب الأمة مناصب في الديمقراطية الثالثة، ما كان يمكن أن يلقاها لولا محاصصة درج عليها الحزب رغم أنها مؤذية للوطن، ومع ذلك ليت الذين بيدهم الأمر ينقذوننا من شرور المتكئين على الإرث الأسري، لا سيما، وأن شرورهم أصابتهم قبل أن تصيب غيرهم. لا أظن أن من بين ناشطي حزب الأمة من لا يعتقد أن مبارك عبد الله الفاضل ظلَّ عبئاً ثقيلاً، ليس على الحزب وحده وإنما على الوطن بأكمله. ولا أطن أن هناك من لم يقف على خيباته التي عمت القرى والحضر. إذ يظن مبارك عبد الله الفاضل إنه إن لم يعش في أجواء المؤامرات وممارسات هواية الفساد، لن تحلو له الحياة وتستقيم. كلنا يعلم إنه إبان حقبة الديمقراطية الثالثة، سدر في الفساد حتى وضع نزاهة السيد الصادق المهدي والنظام الديمقراطي بأكمله في امتحان عسير. وشهدنا يومذاك كيف اضطر المهدي أن يكّون لجنة تقصي، وهي اللجنة التي لم تر أعمالها النور، نسبة لأن حلفائه في الخفاء أجهضوا الديمقراطية الوليدة آنذاك. ومن قبل أن تجري المياه تحت جسر المعارضة، انبرى مبارك عبد الله الفاضل لوضع العراقيل تلو العراقيل في طريقها، واستمرأ ذلك حتى بعد أن شبت عن الطوق، وانتظمت في إطار التجمع الوطني الديمقراطي. يومذاك - ونحن شهود - حمل معوله وشرع في هدم المعبد. وبعد أن طوى الدهر أذرعه كما يقال، اتجه مبارك عبد الله الفاضل نحو مضمار لا يحسن أمره، فاهتدى بقاموس مسيلمة وأصدر كتاباً رديء الصنعة، مليء بالأكاذيب، ومحشو بالافتراءات والادعاءات، أما الأخطاء اللغوية والإملائية فأمرهما لا يدعو للدهشة ولا العجب!
(7)
بيد أنه كما كل المتنطعين، لم يهدأ بال مبارك عبد الله الفاضل، إلا بعد أن فعل بالتجمع الوطني الديمقراطي ما فعله نيرون في روما. ثم أقبل على حزب الأمة، وفعل فيه أيضاً ما فعله (الديك في العدة) كما يقال في الأمثولة السودانية السائدة. ثم هرع نحو أصحابه القدامى، الذين رضعوا التآمر معاً إبان حقبة الديمقراطية الثالثة. فأكرموا وفادته بمنصب شرفي لم يغن ولم يسمن جوع بطنه للسلطة، مما حدا به أن يتطلع لسقف غير الذي حُدد له. فركلوه ركلة مشهودة خارج سور قصر غردون، ثم عادوا إلى أعقابهم يقهقهون من النشوة. وبعدئذ دخل مبارك عبد الله الفاضل المتاهة الكبرى، بلا زاد أو رفيق يبدد وحشته. فجلبوه مرة أخرى كما البضاعة البائرة، وأسبغوا عليه من الوظائف الوهمية ما أسال لعابه ونفخ أوداجه طرباً، فشرع يدافع عن السلطة الغاشمة بصورة أذهلت سدنتها. ولكن بما لديه من مقدرات في معرفة اتجاه الريح، ذهب إلى بيته يتمطى وعقد مؤتمراً صحفياً، قال في ذات السلطة الغاشمة ما لم يقله مالك في الخمر... ولكن قبل يوم واحد من الإقالة!
(8)
لم أعجب في حياتي من شيء مثلما عجبت لرجل ينعته الناس بلقب (البلدوزر) وهو به سعيد، بالرغم من دلالته الواضحة للعيان. لكن حينما تأملت السيرة التي سردت نذر منها، زال عجبي دون عجب. فشخص بمثل هذه الحربائية المدهشة ليس غريباً عليه أن يحاول مع أزلامه الدخول من شباك ثورة الكرامة، نظراً لأنهم يعلمون سلفاً أنهم ليسوا من الذين يحق لهم دخول الثورات من أبوابها. ليس لأن الطيور على أشكالها تقع كما يقال في المثل العربي السائد، ولكن لأن الغافل من ظنَّ أن الأشياء هي الأشياء، كما قال شاعرنا الراحل محمد الفيتوري!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!