في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه
الشهيد .. والشهداء !!
د. عمر القراي
17 يناير 2019
رحم الله شهداء ثورة ديسمبر/ يناير المجيدة، أولئك الشبان الابرار، الذين رووا بدمائهم، الزكية، الطاهرة، ثرى مختلف مدن السودان .. وألهم أهلهم الأقربين، وأهلهم السودانيين الشرفاء، الصبر الجميل .. والتحية للشابات والشبان، والنساء والرجال والأطفال، الذين ما زالوا منذ التاسع عشر من ديسمبر الماضي، يجوبون شوارع كافة المدن السودانية، يشعلون جذوة الثورة، دون خوف أو تردد. بالرغم إصطياد قناصة الإخوان المسلمين، وتفلت رجال الأمن والشرطة، بالضرب، والإعتداء، والإعتقال، ورمي الغاز المسيل للدموع، حتى داخل غرف الحوادث والعمليات في المستشفيات، كما حدث قبل أيام في مستشفى أمدرمان، وحدث اليوم الخميس 17 يناير في مستشفى الفيصل بالخرطوم، حيث أعتقل بعض الأطباء .. لقد رأى الناس من صور التفاني، والثبات، والبطولة، التي سطرها الشباب في هذه المظاهرات، ما كنا، نحن الشيوخ، لا نظنه في أبنائنا الذين ولدوا، وتربوا في عهد حكومة الإخوان المسلمين !! رأينا شباباً لا يهاب الموت، ويتقدم نحو الميدان مكشوف الصدور، أمام رصاص الخونة الأنذال .. رأينا بعضهم، وقد أصيب بالرصاص، يحمله زملاؤه، وهو يضحك ويرفع علامة النصر !! وكأنما عناهم الشاعر سيد عبد العزير، حين قال :
أنا الحكمة ورأس الصلاح
أنا النور الفي الظلمة لاح
أنا البضحك وينزف جراح
أنا السلم الهزم السلاح
كما رأى أبناؤنا، من هؤلاء الشبان الشجعان، وهم تطاردهم قوات الشرطة بالهراوات، والغاز الخانق، وتحوم حول رؤوسهم زخات الرصاص، داخل الأحياء، كيف فتح لهم أهلهم البيوت، ووفروا لهم الماء والغذاء، وقابلتهم أمهاتهم، وحبوباتهم بالزغاريد، والتشجيع، وهتفوا معهم، دون وجل. فشعر الشباب أن هذا الشعب العظيم، مقدر لجهدهم، وفخور بهم، وحريص على أن يفديهم بما ملكت يداه ولهذا هو جدير بالإحترام و جدير بأن يستمروا في النضال من أجله، حتى يتم الخلاص. هكذا أعادت الثورة للشعب الثقة في نفسه، ورفعت رأسه بين الأمم، بعد أن حطته حكومة الإخوان المسلمين سنين عدداً، ووحدت بين مختلف أعراقه، وحدة حقيقية، مهرها إختلاط الدم السوداني ببعضه، في مواجهة الظلم والطغيان.
لقد ميزت الثورة المباركة، بين الطيب والخبيث، وكشفت عورة الإخوان المسلمين وجهالاتهم، وأظهرت للشعب خطورة هذا التنظيم الشيطاني، الذي يمكن أن يقتل المواطنين العزل، بمليشيات مسلحة، دون إعتبار لحرمة الدماء في الدين، أو حقوق المواطنين في الدستور والقوانين .. فعلي عثمان محمد طه، كان قاضياً، ومحامياً، يفترض فيه أن يكون حريصاً على القانون. ولكن فكرة الإخوان المسلمين، التي مارست الإغتيالات منذ عهد حسن البنا، تفهم عضويتها أن من لا يكون عضواً في جماعتهم، يحق لهم قتله، ونهبه، وخداعه، ما دام ذلك كله، من أجل مصلحة الحركة الإسلامية .. إن اصحاب الضمائر الحيّة من الإسلاميين، والذين ضللهم التنظيم بالشعارات الدينية، حين رأوا أن المشروع الحضاري تحول الى مجموعة من اللصوص، الذين باعوا وطنهم، خرجوا منه، ثم التحق بعضهم بثورة الشعب، حين رأوا تنظيمهم يقتل الأبرياء.
إن الخطة التي تسعى الحكومة لتنفيذها الآن، هي طباعة كميات كبيرة من النقود، بلا غطاء، وهو ما يعرف بالتمويل بالعجز، تغمر به البنوك، ثم تسعى لتوفير عملة صعبة، وبترول، من دول عربية، تساعدهم في ذلك لتبقي على نظامهم، ليتم شراء كميات من الدقيق لتوفر الخبز ويتم توفر البنزين. فإذا تم ذلك، فستملأ وسائل الإعلام ضجيجاً، بأن الأزمة قد حلت، ويجب أن تقف المظاهرات !! فإذا لم تقف، قالوا أن هؤلاء مندسين، وحزبيين، طامعين في السلطة، ويريدون تغيير الحكومة بالقوة، بدلاً من إنتظار الإنتخابات في 2020م .. ولهذا يقومون بضرب المظاهرات، بعنف أكبر مما يحدث الآن، حتى يقضوا عليها، ولو أدى ذلك إلى إغتيال المئات، الذين يصورهم إعلام السلطة، على أنهم لا علاقة لهم، بالمشاكل التي يعاني منها الشعب.
ما يجب أن تعلمه حكومة الإخوان المسلمين، هو أن التمويل بالعجز، لا يحل المشكلة، بل يدمر الإقتصاد الوطني، لأنه يزيد من عرض النقود الوهمية بإزاء السلع والخدمات، مما يؤدي الى ارتفاع جنوني في اسعار كل السلع.. فطباعتهم للعملة تضعف من القوة الشرائية للنقود، وتزيد معدلات التضخم، فتزيد الشعب شقاء، وحتى لو زادوا الأجور، سيبتلعها السوق ويظل المواطن عاجز عن توفير ضرورات الحياة .. وهذا في حد ذاته، سبب كافي لاستمرار المظاهرات. لأن الشعب، يجب أن يحمي إقتصاد الدولة من التدمير، الذي ستقوم به حكومة الاخوان المسلمين، ولا يتم ذلك إلا بزوالها. الأمر الثاني هو أن هنالك أكثر من أربعين شهيد، لا يكفي في شأنهم، أن تخدر الشعب بتكوين لجنة تقصي !! وإنما يمكن أن يسكت غضب الشعب، لو قدمتهم للمحاكمة فعلاً، على أن تبدأ بالسيد علي عثمان محمد طه أولاً، ثم الفاتح عز الدين، فهؤلاء الذين هددوا بالقتل صراحة مسؤولين عن دماء الشهداء. كما لابد من محاكمة السيد الرئيس، لأنه أوعز للشرطة بالقتل، وسماه قصاص!! ويجب أيضاً محاكمة كل رجال الشرطة، الذي ضربوا الشبان بالعصي، وأعتقلوا النساء والأطفال. لأن المظاهرات السلمية، حق يكفله الدستور. وأن الجموع الهادرة، لم تخرب. ولقد إعترف السيد الرئيس، بأن هنالك مشكلة، وذكر بعض المسؤولين أن التظاهر حق، فإن كان التظاهر حق، فإن قمعه جريمة لا بد من محاسبة مرتكبيها، قبل مطالبة الشعب بايقاف المظاهرات. فإذا عجزت الحكومة عن محاكمة منسوبيها، فإن الشعب سيحاسبهم، وحتى يستطيع ذلك، لا بد من استمرار التظاهر، وغيره من الوسائل التي تسقط الحكومة بصورة سلمية. وهذه الثورة إمتداد لثورة سبتمبر 2013م، التي قتل فيها حوالي المأتين، ولم يحاسب أحد على قتلهم، وما لم تتم محاسبة من قتلهم، ومن أعطى الأمر بالضرب بالرصاص الحي، يجب ألا يطلب من الشعب إيقاف المظاهرات الحاضرة، التي تنادي بزوال النظام، حتى تتم محاكمة المجرمين والفاسدين. الأمر الثالث، هو أن الشعب السوداني، متضرر من الفساد، لأن الأموال التي ينهبها الفاسدون، هي ملك للشعب السوداني. والحكومة إعترفت بالفساد، وسمت المفسدين "القطط السمان"، ولكنها لم تحاكمهم، لأنهم سيجرون بأرجل نافذين في الدولة .. ومن أمثلة الفساد الظاهرة، ولا يتم الحديث عنها، أن الحكومة منعت التعدين الفردي، وأحتكرت إستخراج الذهب، بآلالاف الأطنان، لشركات تابعة لإخوان الرئيس البشير، وزوجته وداد، مع أن الذهب الذي يوجد في الأرض السودانية، هو ملك لكافة أفراد الشعب السوداني، على الشيوع، وليس ملك لأسرة الرئيس .. فيجب مصادرة الذهب من أسرة الرئيس، وإدخاله الخزينة العامة، قبل مطالبة الشعب بايقاف المظاهرات، لأن المتظاهرين يريدون حقهم في ثروة بلدهم .. والرئيس حين يطالب المتظاهرين بترك التظاهر، وتغيير النظام عن طريق الإنتخابات، إنما يمارس الكذب !! لأن حكومة الإخوان المسلمين جاءت بانقلاب في عام 1989م، ولو كانت تؤمن بالديمقراطية والانتخابات، لما غيرت النظام بالقوة .. والحقيقة أن كل ما يقوله السيد الرئيس كذب، وهو لا يستطيع أن يصدق، حتى لو أراد ذلك !! فقد جاء في الحديث ( ما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ومن كتب عند الله كذاباً لا يستطيع أن يصدق !!
في هذه الأيام الزاهيات، المليئات بالتضحية والثبات، تمر علينا ذكرى أول الشهداء، وأكبر الشهداء في مواجهة الهوس الديني، ودولته المزعومة- الذكرى الرابعة والثلاثين للفداء العظيم، الذي واجه فيه الاستاذ محمود محمد طه دعاة الهوس والدجل، بإبتسامة الرضا، عند منصة الإعدام، ذلك الموقف الذي جسدة عدد من الشعراء السودانيين، فقال أزهري محمد علي:
يا أبوي صباح الخير من آخر الأعماق
وأنا حالي غيرك غير في منتهى الاشواق
يا مستجير بالله من كل زيف ونفاق
معصوم بسر الله حق اليقين ميثاق
والدم فداه الدم ودم الحقيقية يراق
وقال الشاعر الجمهوري العوض مصطفى:
حدثني عن أخبار الشيخ الباسم في وجه الشنّاق
المؤمن بالشعب العمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاق
الباذل للروح الغالي والمطلق من قيد الإشفاق
هل كنت تظن بأن الصبر على البلواء له حذاق؟!
يكفيني أني كنت جليسك رغم شعور الإبن العاق
إن الذي يجمع بين الأستاذ محمود، وثوار الثورة الحاضرة ، هو الإيمان بهذا الشعب العظيم، والإستعداد للتضحية من أجله . لقد كان الأستاذ محمود محمد طه، أول سجين سياسي سوداني، في مواجهة الإستعمار الإنجليزي المصري في عام 1945م .. وكان يرفض أي مهادنة مع المستعمر، ويؤمن بتحريك الشارع ضده، وحين نادت بعض الاحزاب، بالوحدة مع مصر للخلاص من الإنجليز، ونادى آخرون بحكم إستقلال تحت إنتداب بريطاني للخلاص من المصريين، كتب الأستاذ باسم الجمهوريين، منشور بعنوان ( لماذا مصر ولماذا بريطانيا ؟) وزع باللغة العربية على الشعب، وترجم باللغة الإنجليزية وسلم للبريطانيين.
وحين أعلنت حكومة نميري قوانين سبتمبر 1983م، وبدأت في تقطيع أيادي السودانيين، وشاع جلد المواطنين وإذلالهم، قال الأستاذ لتلاميذه الجمهوريين ( دحين زي الشعب السوداني دا ما بستحق الواحد يضحي بحياته من أجله ؟؟) وقد كان.